من أجمل تقاليد كنيستنا القبطية مناداة الأب الأسقف والكاهن بلقب "أبونا"، بل يقف على قمة الهرم الكنسى شخص محبوب يسمى (البابا) ووظيفته (بطريرك) أى (رئيس الآباء) أو بالأحرى (أب الآباء)... فكل كهنوت كنيستنا هو أبوة روحية غامرة يتلقنها الكاهن (فى أية درجة، من المسيح ويشبع بها بفيض، فتشع منه روحاً ينسكب فيغمر الكنيسة بفيض الحب والأبوة، الاهتمام والرعاية لكل نفس "التراكم علىّ كل يوم. الاهتمام بجميع الكنائس. من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو29:11)، هذه هى الأبوة التى تنسكب كأنهار مياه حية من أحضان الثالوث القدوس فتحى العالم عبر الكاهن.
وأبوة الكهنوت فى كنيستنا تتجلى فى ثلاثة وظائف: قداسة البابا البطريرك :
هو الراعى الأكبر للكنيسة القبطية، ورئيس أساقفتها، وهو الذى يرأس المجمع المقدس، الذى هو السلطة العليا فى الكنيسة من جهة التعليم والتشريع والعقيدة والرعاية.
1- الوساطة :
الوسيط هو من يقف فى الوسط بين فريقين يصل بينهما، محاولاً إيجاد الوحدة الكاملة بينهما. والفريقان هنا هما الله والإنسان.
ومعروف أن العلاقة الرائعة التى جمعت بين الله والإنسان فى الفردوس قد تشوهت وفترت بسبب السقوط... فكان لابد من وسيط يقوم بالمصالحة... وكان أيوب الصديق يبحث عن هذا الوسيط: "ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا" (أى 33:9) ولم يكن الوسيط إلا ربنا يسوع المسيح الذى يجمع فى ذاته - بسبب الاتحاد الأقنومى - "كل ما للآب" (يو15:16)، فهو من نفس الجوهر الذى للآب وأيضاً كل ما للإنسان إذ "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى 7:2،8)، لذلك قيل عنه بحق "يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح، الذى بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1تى 5:2،6)، فالمسيح هو رئيس الكهنة الأعظم (لحن ميغالو)، ولكنه منذ البداية قد أختار أناساً ليمارس فيهم وبهم ومن خلالهم كهنوته الخاص "ثم دعا تلاميذه الأثنى عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حتى يخرجوها، ويشفوا كل مرض وكل ضعف" (مت 1:10)، "وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتى" (لو1:10)، إلا أن مهمتهم لم تنحصر فى هذا العالم ولم تقتصر عليه بل أعطاهم أن يمارسوا كل كهنوته فهم معه حيث هو (يو 24:17)، "ويشتركون فى سلطانه" (مت 18:28-20)، "وما يحلونه على الأرض تحله السماء" (مت 19:16). بل صاروا خدام المسيح ووكلاء سرائر الله (1كو 1:4) حتى أنه قال لهم "الذى يسمع منكم يسمع منى. والذى يرذلكم يرذلنى" (لو16:10)... فحضور الكاهن يمثل حضور المسيح فى الكنيسة - لاحظ أن ألحان استقبال الأسقف فى الكنيسة هى ألحان تعلن عن حضور المسيح (ابؤورو، ايفلوجيمينوس، اكسماروؤت) - وبهذا المنظور يكون الكاهن وسيطاً بين الله والناس إذ أنه يمثل شخص ربنا يسوع المسيح... فهو من جهة متحد بالمسيح ومن جهة أخرى يجمع كل الشعب فى قلبه بالأبوة والحب ليوحدهم بالمسيح... وهذه، لائك، تمثل معاناة، يشبهها معلمنا بولس الرسول بآلام المخاض "يا أولادى الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غل 19:4).
إن هذه المعاناة اليومية التى يقاسيها الكاهن ما هى إلا علامات أبوته التى بها يحمل هموم الناس ويطرحها تحت قدمى المسيح... أنه يتوب مع كل تائب "... عبدك (فلان) وضعفى نحن المنحنييْن برؤوسنا أمام وجهك المقدس. ارزقنا رحمتك، اقطع عنا كل رباطات خطايانا..." (التحليل الذى يقرأه الكاهن على رأس المعترف). ويصلى عن كل مريض ومسافر ومنتقل... ويطلب عن خلاص العالم والبهائم والزروع والمياه والأهوية... يشفع فى الأرملة واليتيم والغريب والضيف، ويئن مع الذين فى السجون والنفى ومع المظلومين والمتألمين..، ويرفع تنهدات بنى البشر لله أمام المذبح حاملاً عار الناس وخطيتهم متشبهاً بالمسيح الذى منه تستمد كل أبوة وكل قوة.
2- النموذج :
ليس الكاهن واعظاً وحسب ولكنه أب، يسلم أولاده روح المسيح، أنه أكثر من أن يكون معلماً أو مرشداً روحياً بل هو شاهد عيان لانسكاب الروح القدس فى أبنائه، أنه إنسان تتجلى فيه بوضوح روح النبوة فى العهد الجديد - ليس بمعنى من يتنبأ بالمستقبلات بل من ينبئ بفكر الله وإرادته ويعلنه ويعلمه للناس.
الكاهن فى الكنيسة يقود أولاده نحو المسيح فى مسيرة روحية متدرجة، يتبعون خطواته فيما هو يتبع خطوات المسيح "لأنه إن كان لكم ربوات من المرشدين فى المسيح لكن ليس أباء كثيرون لأنى وأنا ولدتكم فى المسيح يسوع بالإنجيل. فأطلب إليكم أن تكونوا متمثلين بى" (1كو15:4،16)، "كما أنا أيضاً بالمسيح" (1كو 1:11). فالحياة الروحية التقوية لا تلقن، ولا يستطيع المعلم الروحى إلا أن يساعد على تفتحها ونموها، وهذا يكون بحياته وسلوكه التلقائى العفوى التقوى، ويكون بالتفاف الأبناء حوله ليشربوا منه روح التقوى والعفة والوداعة... "كن قدوة للمؤمنين فى الكلام فى التصرف فى المحبة فى الروح فى الإيمان فى الطهارة" (1تى 12:4).
وروح المسيح هذه تنتقل من جيل إلى جيل خلال الآباء الذين يحملون الوديعة ويسلمونها لأبنائهم بأمانة وتقوى "كونوا متمثلين بى معاً أيها الأخوة ولاحظوا الذين يسيرون هكذا كما نحن عندكم قدوة" (