القارئ لحياة وكتابات قداسة البابا شنودة الثالث يقف على بعدين أساسيين:
أولاً: الشقاء الإنسانى بأنواعه المختلفة
ثانياً:اللجوء
إلى الله الملاذ الأوحد والأعظم بهذين البعدين تجلت لنا حياة قداسة البابا
شنودة وكتاباته الزاخرة بالتجارب الإنسانية والإيمانية والأعمال الفكرية
والأبداعية على امتداد ما يقرب من تسعين عاماً... فعندما تتبع تاريخ هذا
الحبر الجليل ندرك عن قرب معالم وتفاصيل رحلة الآلام التى مر بها إنساناً
وراهباً وأسقفاً للتعليم ثم بطريركياً لكرسى الإسكندرية... تلك الآلام التى
خيرها منذ الساعات الأولى لمجيئة إلى هذا العالم، عندما حرم دفء الأمومة
وراحت نساء قرية "سلام" بأسيوط- مسقط رأسه- تلقمه اثداءها عوضاً عن ثدى
أمة... فنجده يقول فى إحدى قصائده متسائلاً فى مرارة: "أحقاً كان لى أم
فماتت؟".
تمر
السنون وتتضاعف الآلام عندما يصبح نظير جيد بطريركاً للكرسى المرقسى يحمل
على عاتقه أخطر مسئولية يمكن لبنى البشر أن يتحملها... ألا وهى رسالة خلاص
الذات البشرية والعبور بها من آلام الزمان الحاضر إلى المجد العتيد الذى
سنعيم به المؤمنون فى أورشليم السمائية...
حمل
الأنبا شنودة صليب الخدمة الذى غدت الأحداث والضيقات تدق فيه يوماً بعد
يوم مسماراً جديداً... وعاش الأنبا شنودة الثالث أربعين عاماً رأى فيها
كيف ذاق أبناؤه كثيراً نم الضيقات والآلام، تشهد على ذلك أحداث: الخانكة،
الزاوية الحمراء، الكشح(1)، الكشح(2)، أبو قرقاص، نجه حمادى،
الإسكندرية،العمرانية،المقطم،صول،إمبابة، ماسبيرو... عاش الأنبا شنودة ورأى
وسمع كل هذه الصرخات فما كان منه إلا أن يرسلها للحبر الأعظم عبر الدموع
والصلاة والصوم طارحاً كل هذا عند قدمى المخلص الذى ذاق قبلاً كأس الآلام
من أجل كل إنسان بل من أجل أعدائه أولاً، فأعطى كلاهما مثالاً حياً لثقافة
المحبة والتسامح والغفران عوضاً عن ثقافة الكراهية والأنتقام...
وقد عبر عن ذلك فى قصيدة "أبواب الجحيم" عام 1946 مخاطباً الكنيسة:
كم قسا الظلم عليك
كم سعى الموت إليك
كم صدمت باضطهادات
وتعذيب وضنك
أيضاً عبر عن معانى الألم والحتمال فى قصيدة "الأبطال" عام 1947
مدينتان
يعد
قداسة البابا شنودة الثالث واحداً من المبدعين القلائل (على مستوى الإبداع
العالمى) الذين تجاوزت أقلامهم الحياة الحاضرة وأقتربت من الحياة الروحية
والإيمانية حيث الأبدية وعالم الخلود... وأورد هنا نموذجين على سبيل المثال
لا الحصر:
أولهما:
من الإبداع الفرنسى عندما قال "فرانسوا مورياك" (الحائز على جائزة نوبل
للأداب عام 1952) عن سر القربان المقدس، "أنه السر الرهيب للنفوس التى
ينهشها الآلم".
والنموذج
الثانى: من الابداع الروسى حيث تناول الروائى "فيودور ديستويفسكى" فى
رواية "الأخوة كارمازوف" (1879- 1880) حياة الراهب والرهبان وخصص مساحة
عريضة للراهب الأب زوسيما بطل الرواية التى جاءت فى ثمانية عشر جزءاً...
أما
عن البابا شنودة الثالث فجاء قلمه منذ البداية للنهاية محققاً للهدف
الأسمى: محبة الله، ذلك إنه أتجه لكتابة القصائد الروحية فى وقت مبكر وقبل
أن يسلك حياة الرهبنة، ولعل كتابه: "أنطلاق الروح" الذى صدر فى طبعته الأول
عام 1957 ضم عديداً من الكتابات الشعرية والقصصية السابقة على تاريخ
النشر...
يقول فى قصيدة "سائح"
أنا فى البيداء وحدى
ليس لى شأن بغيرى
لى جحر فى شقوق التل
قد أخفيت جحرى
وله قصائد أخرى: غريب، أغلق الباب وحاجج .. وغيرها
وفى
مقطوعته البديعة: "وتتركونى وحدى" يصور الحزن النبيل والألم فى أسمى
معانيها عندما يتأمل فى بستان جثيمانى، وكيف شهد معاناة السيد المسيح فى
خميس العهد (ليلة الجمعة العظيمة).
يقول
قداسة البابا تحت عنوان: "واقف وحده"، "كان ذلك المحب الحنون الطيب القلب
يجول يضع خيراً، ينتقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة يكرز ببشارة
الملكوت، ويشقى كل مرضى وكل ضعف فى الشعب... ومع ذلك أجتاز حياة مليئة
بالألم، وكان الجميع يتركونه وحده، على الرغم من إنه فى حنانه لم يترك أحد،
وهكذا وجدناه وحيداً فى متعبه وآلامه، وحيداً له من ظلم واضطهاد: لم يدافع
عنه أحد، ولم يقف إلى جواره أحد، وإنما جاز المعصرة وحدة".
وفى
قصة: "حدث فى تلك الليلة" يروى لنا قصة الخدام والمدينة العظيمة من خلال
رؤيا لأحد الخدام يمضى ليلة هائماً على وجهه لا يستطيع دخول هذه المدينة
النورانية لأن أسمه ليس مسجلاً فى سفر الحياة... وهذه هى المفارقة أن يقف
خدام الكلمة خارجاً قارعين لا يفتح لهم... وتمضى القصة- الرؤيا- ليصل بنا
قداسة البابا إلى هذه النهاية قائلاً: "ومرت على مدة وأنا فى غيبوبة طويلة،
ثم استفقت أخيراً وفتحت عينى ولكنى دهشت، وأزدادت دهشتى جداً... وظللت
أنظر حولى وأنا لا أصدق، ثم دققت النظر إلى نفسى، فإذا بى ما أزال وحيداً
فى غرفتى الخاصة متمدداً على مقعدى... يالرحمة الله... أحقاً أعطيت لى فرصة
أخرى لأكون خادماً صالحاً؟... وقمت فقدمت لله صلاة شكر عميقة، ثم عزمت أن
أخبر أخوتى بكل شئ فأمسكت بعض أوراق بيضاء، وأخذت أكتب "حدث فى تلك الليلة"
وهكذا يستمر الأمر فى رواية "جلسة صاخبة فى جامعة سلطان الظلام"
وإذا
كان البابا شنودة كتب هذا الفيض عن المدينة السمائيسة النورانية، فإن شعره
زخر أيضاً بالحديث عن المدينة الأرضية- المحبوبة مصر- فقال يوماً ما:
جعلتك يا مصر فى مهجتى
وأهواك يا مصر عمق الهوى
إذا غبت عنك ولو فترة
أذوب حنيناً أقاسى النوى
إذا عطشت إلى الحب يوماً
بحبك يا مصر قلبى أرتوى
الام واقلام اخرى
وكما
ظل قلم قداسة البابا شنودة ملازماً له طوال حياته على الأرض، ها نحن نرى
ذوى الأقلام من تيارات مختلفة تحتفى به، ذلك أن اتحاد كتاب مصر وهيئة قصور
الثقافة أكدا فى أكثر من بيان على التاريخ الطويل المشرف للبابا الذى يعد
علامة مضيئة فى طريق خدمة الدين والحق والواجب، وتعتبره رجل دين من طراز
فريد عاش فى ثياب الزهد والورع وأنتقل إلى مصاف القديسين. أيضاً نذكر
بالاعزاز والتقدير دوره الوطنى المتفرد فى دعم روح الأخاء والمودة بين
المصريين، ودةره فى خدمة الثقافة المصرية الأصيلة وبث تيار فكرى معتدل
أستطاع أن ينقذ الوطن من مأزق وعثرات كادت أن تعصف به لولا حكمته ورؤيته
الثاقبة فى أوج تفجر هذه الأزمات التى كان آخرها أحداث ماسبيرو العام
الماضى...
ولم
يختر الأنبا شنودة آلام النفس وحدها، بل عاش أيضاً آلام المرض الدفين الذى
ينوء بحمله أى إنسان مهما بلغت قامته الروحية من عظم ورفعة، فكتب فى
السنوات الأخيرة عدة قصائد تدل على أشتياق قليلة للقاء الله، فكتب: أحبك
يارب فى خلوتى، وحرمت الجبال، وغيرها من الأعمال الشعرية التى تعبر عن مدى
رغبة فى الأنتقال من الأرض إلى السماء.
وتمضى
الأيام والشهور والسنون... وتتضاعف الآلام ويتعاظم معها الرجاء إلى أن أمر
الجالس فى الأعلى بكتابة النهاية هنا على الأرض لتبدأ الرحلة الخالدة رحلة
الأبدية.