>> وكأن الصائم يقول لله: أنا يارب من أجلك آكل, ومن أجلك أصوم: من أجلك آكل, لكي آخذ قوة أستطيع بها أن أقف في الصلاة, وأن أودي عملي بطريقة أمينة, وأن أعمل خيرا مع كل أحد.. وأنا أصوم لكي تستطيع روحي أن تقترب إليك بدون عائق من الجسد.
>> الصوم إذن هو فترة مقدسة مثالية غير عادية, يحتاج فيها الصائم إلي تدبير روحي من نوع خاص يتفق مع قدسيتها, في حياة لها سموها, ولايجوز أن تمر كباقي الأيام.. إنها صفحة جديدة في علاقتنا مع الله, ندخلها بشعور جيد وبروح جديدة, ونتفرغ فيها لله علي قدر إمكاننا, ونعمق علاقتنا به.
>> الصوم هو فترة للتوبة الحقيقية, وفي الحرص علي نقاوة القلب, والله يريد القلب النقي أكثر مما يريد الجسد الجائع, والإنسان الذي يصوم فمه عن الطعام, ولايصوم قلبه عن الخطايا, ولا لسانه عن الأباطيل, فصوم هذا الإنسان باطل, فإذا ما اجتمعت نقاوة القلب مع صوم الجسد يكون هذا وضعا مثاليا.
إذن حاول يا أخي القارئ أن يكون صومك قد غير منك شيئا عن ذي قبل وحولك إلي حياة أفضل, أما إن كانت قد مرت عليك سنوات طويلة تصوم فيها, وأنت كما أنت بنفس الطباع, وبنفس الأخطاء, وبنفس السقطات, فما الذي استفدته أنت من صومك؟!
>> الصوم أيضا يرتبط بالصلاة وبالصدقة.. هذه الثلاثة صادات( صوم صلاة صدقة) ينبغي أن تحرص عليها, ففي صومك ينبغي أن تهتم بفضيلة العطاء, ومادمت تشعر في الصوم بالجوع, فعليك أن تهتم بالجائعين وتطعمهم, وما أجمل ما قاله أحد الآباء في إحدي المناسبات: إن لم يكن عندك ما تعطيه لهؤلاء المحتاجين, فصم وقدم لهم طعامك, ولعله في هذا المجال تقام كثير من موائد الرحمن لإطعام الغير.
>> الصوم أيضا يرتبط بالصلاة, ولانقصد مجرد الصلاة الشكلية, وإنما الصلاة التي يرتفع فيها القلب إلي الله بكل حرارة وبكل عمق, وهكذا تكون الصلاة ـ من واقع اسمها ـ هي صلة بالله, وإن لم توجد هذه الصلة, لاتكون الصلاة صلاة.
>> الصوم أيضا يرتبط باستمرار بفضيلة ضبط النفس, وفيما يضبط الإنسان نفسه عن الطعام والشراب, إنما يأخذ من ذلك تدريبا لضبط ارادته بحيث لاتنحرف, بل يقدم الصائم ارادته إلي الله, ويقول في نفسه لا أريد إلا ما يريده الله في حياتي, إذن ابحث بدقة أين تشرد إرادتك بعيدا عن الله, وركز علي هذه النقطة بالذات لكي تنجح فيها وتقدم لله إرادة صالحة ترضيه, وكما تفعل هذا أثناء الصوم, اجعل هذا التدريب يستمر معك حتي بعد أن ينقضي الصوم, وإذا أمكنك في صومك أن تنجح إرادتك, ولو في الانتصار علي نقطة ضعف معينة في حياتك, فإنك ستشعر بفائدة الصوم لك, لذلك لاتأخذ من الصوم شكلياته بل ادخل إلي العمق.
>> إن الصوم وصية من الله, ولكنك في صومك, لاتصم لمجرد طاعة الوصية, وإنما بالأكثر لأجل محبة هذه الوصية التي تحقق لك انتصارا في حياتك علي كثير من الأخطاء, والتي تعطيك فرصة لغذاء الروح وتقويتها, وغذاء الروح معروف وهو: الصلاة والتأمل, وقراءة كتاب الله, وكل القراءات الروحية التي تعمق محبة الفضيلة في القلب, وكذلك الترانيم والتسابيح, والاجتماعات الروحية وما أشبه, وغذاء الروح أيضا يشمل المشاعر الروحية والاهتمام العميق بالأبدية وموضع الإنسان فيها.
والروح إذا تغذت, تستطيع أن تحمل الجسد, ونلاحظ أحيانا ان الانسان حينما يقرأ قراءة نافعة وجذابة, ويشبع بالقراءة ولذتها, ويحين موعد الطعام, إنه لايجد رغبة في الأكل, بل كل رغبته أن يكمل القراءة, وذلك بأن روحه تغذت فحملت الجسد, فلم يشعر بالجوع.
إذن اعط الروح غذاءها أثناء الصوم, وكن واثقا أن غذاء الروح سيعطي الجسد قوة يحتمل بها الصوم, إن صلوات الصوم هي أعمق من الصلوات في وقت آخر.
>> وفي الصوم لاتجعل مشغولياتك تطغي, بحيث تستقطب كل أفكارك, ولايبقي في ذهنك موضع لله, لذلك اجعل لمسئولياتك حدودا, واعط لربك مجالا تفكر فيه, وكل فكر لايرضي الله ابعده عنك, فهو لايتفق مع المجال القدسي الذي تعيش فيه أثناء الصوم, لذلك لاتنجس صومك بفكر خاطئ.
>> الصوم ليس هو فقط صوم الجسد, وإنما هناك أيضا صوم اللسان, حيث تتدرب أن تكون كل كلمة تخرج من فمك, يرضي الله عنها, ولاتتعب ضميرك, بل تكون كلمة للبنيان, تبني بها غيرك, وتبني بها روحياتك, والصوم أيضا يشمل صوم الفكر وصوم النيات وصوم القلب عن كل شئ لايرضي الله, إذن ليكن صومك شاملا لكل ما فيك.
>> الصوم إذن ليس مجرد فضيلة للجسد بعيدا عن الروح, وكل عمل لاتشترك فيه الروح لايعتبر فضيلة علي الإطلاق, والصوم الحقيقي هو عمل روحي داخل القلب أولا في علاقة الإنسان بخالقه أما عمل الجسد في الصوم, فهو تعبير عن مشاعر الروح, الروح تسمو فوق مستوي المادة والطعام, فتقود الجسد معها في موكب نصرتها, ويعبر الجسد عن هذا بممارسة الصوم, الصوم إذن ليس هو جوعا للجسد, بل هو غذاء للروح, والصوم هو روح زاهدة, تشرك الجسد معها في الزهد, إذن فالصوم ليس هو الجسد الجائع, بل الجسد الزاهد, وليس الصوم هو مجرد جوع الجسد, وإنما بالأكثر هو تسامي الجسد وطهارته, والصائم حينما يصلي لايصلي فقط بجسد صائم, إنما أيضا بنفس صائمة, والصوم بهذا الشكل هو وسيلة صالحة للعمل الروحي, يحيا فيه الانسان جميعه بقلبه ونفسه وروحه وفكره وحواسه وعواطفه في إرضاء الله وفي محبته, وتكون وصية الصوم لها تفسيرها الروحي السليم.